وعاد الكنيست للبحث في الموضوع سنة 1999، وهذه المرة في إطار محاربة الأحزاب القومية والوطنية للجماهير العربية في إسرائيل (فلسطينيي 48). فقد طالبوا بمنع «الحركة العربية للتغيير» برئاسة النائب أحمد الطيبي وحزب التجمع الوطني برئاسة النائب عزمي بشارة، من خوض الانتخابات بحجة أنهما يهددان يهودية الدولة. وقد صادقت لجنة الانتخابات المركزية على هذا التوجه. ولكن محكمة العدل العليا رفضته وسمحت للقائمتين بأن تخوضا الانتخابات، وتم تكرار هذه العملية في الانتخابات التي جرت بعدئذ سنة 2003 وسنة 2006 ثم 2009. وقد كتب رئيس المحكمة العليا، أهرون باراك، يومها أن هناك استغلالا زائدا عن الحد لمسألة يهودية الدولة. خلال كل مراحل النقاش حول «دولة يهودية»، بقي نقاشا داخليا في إسرائيل نفسها، ولم يتحول إلى نقاش خارجي ولا إلى مطلب من الآخرين. فعندما أبرمت إسرائيل اتفاقية سلام مع مصر أو مع الأردن، لم تطلب منهما أن يعترفا بإسرائيل كدولة يهودية، مثلما تطلب اليوم من السلطة الفلسطينية. لا بل حتى خلال المفاوضات حول اتفاقيات أوسلو، لم يطرح هذا المطلب على منظمة التحرير الفلسطينية.
والسؤال الذي يطرح في هذه الحالة، هو: ما قصة هذا المطلب فعلا؟ هل هو مطلب يهودي وطني شامل فعلا، كما تشير استطلاعات الرأي؟ أم إنه تكتيك سياسي لإفشال مفاوضات السلام؟
لقد كان أول من طرح هذا المطلب مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين اليهود في مطلع العقد، ووجهوه يومها ليس للسلطة الفلسطينية، بل للمواطنين العرب في إسرائيل. ففي حينه كانوا يعدون مشروع دستور لإسرائيل، حيث إنه لا يوجد دستور في إسرائيل حتى يومنا هذا، وهي تعمل وفق قوانين عامة أو قوانين أساسية. وقد طلب الأكاديميون اليهود من مجموعة من الأكاديميين العرب أن يشاركوا في وضع هذا الدستور باعتبار أن المواطنين العرب في إسرائيل هم جزء لا يتجزأ من الدولة حاضرا ومستقبلا ولا بد من أن يكونوا شركاء في وضع الدستور. وقد طرحوا المسألة بشكل عادي بداية باعتبار أن من المفروغ منه أن إسرائيل دولة يهودية، فهكذا جاء في قرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين، وهكذا ينظر العالم كله للموضوع. وعلى هذا تنص القوانين الإسرائيلية، ولكن رد الأكاديميين العرب قد صدمهم. فقد رأى العرب أن تسمية إسرائيل كدولة يهودية يضع مواطنيها العرب في مهب الريح ويهدد وجودهم في الدولة. وقالوا إن اعتبار إسرائيل يهودية يفقد سكانها العرب حقهم في الوجود ويفتح الطريق أمام تكريس سياسة التمييز العنصري المتبعة ضدهم منذ قيام الدولة. وقالوا إن مثل هذه التسمية تحولهم من مواطنين إلى رعايا يسهل التخلص منهم في أي وقت، بينما هم يعتبرون أنفسهم أهل هذه البلاد وأصحابها.
وعندما عرف هذا الموقف وبدأ جدال علني حوله في الصحافة وفي الندوات، ثارت ثائرة اليمين الإسرائيلي وراح يشكك في إخلاص العرب للدولة ويتهمهم بالرغبة بتدمير إسرائيل. وبالمقابل رد العرب بإصدار أربع وثائق قومية ترفض جميعها اعتبار إسرائيل دولة يهودية. فاستخدم اليمين هذه الوثائق والموقف الذي تحمله سلاحا في سياسته العنصرية. وأصبحنا نسمع تعبيرات مثل «العرب هم طابور خامس داخل إسرائيل».
لكن هذا النقاش بقي نقاشا داخليا في إسرائيل. وانضم عدد من الشخصيات اليهودية الانفتاحية إلى العرب في رفض اعتبار إسرائيل دولة يهودية. وعلى سبيل المثال، قال الأديب أ.ب. يهوشوع، إن اعتبار إسرائيل دولة يهودية هو «خطأ تاريخي»، وليس فقط لأنه يمس بمكانة المواطنين العرب. ففي التوراة يتحدثون عن بني إسرائيل وليس عن اليهود، لأن اليهود هم سبط واحد من مجموع 12 سبطا يؤلفون الشعب الإسرائيلي. ولكن غالبية الإسرائيليين رأوا في رفض إسرائيل كدولة يهودية موقفا خطيرا من السكان العرب.
وهنا لجأوا إلى السلطة الفلسطينية لعلها تسعف إسرائيل وتعترف بها دولة يهودية، فيتحول النقاش من الساحة الإسرائيلية الداخلية إلى الساحة الفلسطينية الداخلية. وكان أول من طرح مطلب الاعتراف الفلسطيني الرسمي بالدولة اليهودية، هي تسيبي لفني، رئيسة حزب «كديما» عندما كانت وزيرة خارجية إسرائيل في زمن حكومة إيهود أولمرت. وقد رفض الفلسطينيون هذا المطلب ليتفادوا المطب، وقال الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في أكثر من مناسبة إن «إسرائيل تستطيع أن تسمي نفسها ما تشاء، فلماذا تقحمنا في هذا الأمر؟ نحن نتعامل معها كإسرائيل ونعترف بها كإسرائيل وهذا هو اسمها الرسمي».
من هنا جاء استغلال هذا الموقف، كل حسب رغبته وبرامجه السياسية. ففي اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل، اعتبروا الرفض الفلسطيني سلاحا لهم يتهربون بواسطته من مستلزمات عملية السلام. ففي الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، وطرح فيه مشروعه السياسي ووافق فيه على مبدأ الدولتين للشعبين، قال إن الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية هو شرط لإبرام اتفاقية سلام. ونجح في ما بعد في إقناع الرئيس الأميركي باراك أوباما، بتبني هذا الموقف وتسمية إسرائيل دولة يهودية، ولو أن أوباما رفض أن يكون الاعتراف الفلسطيني بها شرطا لعملية السلام. ويسير وراء اليمين في هذا الطرح غالبية الأحزاب الإسرائيلية، بدءا بأحزاب الائتلاف الحاكم؛ الليكود، و«إسرائيل بيتنا» و«شاس» لليهود الشرقيين المتدينين و«يهدوت هتوراة» لليهود الاشكناز المتدينين و«البيت اليهودي»، وحتى حزب العمل الذي يعتبر نفسه يساريا. كما يؤيد هذا الشرط حزب «كديما» الليبرالي المعارض وحزب الاتحاد القومي اليميني المعارض. والأحزاب الوحيدة التي تعارض في إسرائيل هذا المطلب هي: حزب «ميرتس» اليساري الصهيوني، الذي يرى في إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية، ولكنه يعارض فرض الاعتراف بها على هذا النحو كشرط لعملية السلام. وهناك أيضا الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وهي عربية يهودية، وترفض تعبير الدولة اليهودية، ولكنها تطرح بديلا آخر يعيد الأمور إلى ما جاء في قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين؛ إسرائيل تعبر عن حق تقرير المصير للشعب اليهودي وتكون دولة لجميع مواطنيها، وفلسطين تعبر عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وتكون دولة لجميع مواطنيها. وبقية الأحزاب العربية (التجمع الوطني الديمقراطي والحركة العربية للتغيير والحركة الإسلامية والحزب الديمقراطي العربي) ترفض اعتبار إسرائيل دولة يهودية وتريدها دولة لكل مواطنيها.
ويقول أحمد الطيبي، رئيس كتلة القائمة العربية الموحدة في الكنيست الإسرائيلي (تضم الحركة الإسلامية والحزب الديمقراطي العربي والحركة العربية للتغيير): «إسرائيل ليست دولة يهودية ديمقراطية كما تدعي. إنها دولة يهودية على مواطنيها العرب ودولة ديمقراطية على مواطنيها اليهود».
القضية إذن، ليست بريئة. فالمفترض أن إسرائيل دولة يهودية منذ تأسيسها. حظيت باعتراف على هذا النحو في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكرست ذلك في قوانينها. وإذا كان هناك نقاش في الموضوع، فهو نقاش داخلي مع المواطنين العرب في إسرائيل، لأن اعتبارها دولة يهودية يهدد مكانتهم. وبإمكان الحوار مع هؤلاء المواطنين، إذا صدقت النوايا لحفظ مكانتهم ومنحهم حقهم في المساواة، أن ينتهي بحل مبدع يرضي الطرفين وينهي المشكلة. لكن حكومة اليمين الإسرائيلي لا تتعامل من هذا المنطلق. بل تستغل هذه القضية التي تعتبر محرقة بالنسبة لليهود، بشكل شرس بغية تحقيق أهداف سياسية وتكتيكية أخرى بعيدة عن خدمة مصالح شعوب الشرق الأوسط برمتها، بما في ذلك اليهود أنفسهم. فاليهود يريدون دولة يهودية في فلسطين (أرض إسرائيل حسب التعبير اليهودي والتوراتي). ويرون في هذه الدولة جوابا قاطعا وشافيا للاضطهاد الذي عاناه اليهود في أوروبا عبر أكثر من 2000 سنة، الذي بلغ حد محاولة الإبادة في زمن النازية. بل يرون في الدولة اليهودية طموحهم الأول لإغلاق دائرة الخطر الذي يشعرون بوجوده عليهم. ويرون في رفض يهودية الدولة، تكريسا لمشاعر الشك تجاه شعوب العالم كله، وليس فقط العرب.
ويستغل اليمين الإسرائيلي هذه المشاعر لدى المواطنين اليهود لمصلحة سياسته الرفضية. فيطرح الأمر شرطا على الفلسطينيين. وهو (أي اليمين) يريد أن يرفض الفلسطينيون هذا الشرط، حتى يبرر لنفسه وللعالم وكذلك لليهود، لماذا يتملص من عملية السلام. ولو لم يجد هذا الرفض الفلسطيني حجة يتذرع بها للتهرب من مستلزمات السلام، لكان اليمين الإسرائيلي وجد حجة أخرى يتذرع بها في سياسته الرفضية.