الابراج : الأبراج الصينية : عدد الرسائل : 2018 العمر : 32 الموقع : http://www.quran-m.com/ العمل/الترفيه : التأليف المزاج : التثقيف الذاتى السٌّمعَة : 3 نقاط : 2969 تاريخ التسجيل : 30/10/2009
موضوع: العلمانية: هل هي الحل أو هي المشكلة؟ الجمعة يوليو 29, 2011 9:24 am
من كتاب: الدين والسياسة د/يـوســف القـرضــاوى
العلمانية: هل هي الحل أو هي المشكلة؟
نخصص هذا الفصل لمناقشة بعض اللبراليين الجدد: الذين يدّعون أن العلمانية هي الحل!
والعلمانية: فكرة جديدة – أو قُل: دخيلة - على المجتمعات الإسلامية! لم يعرفها المسلمون طوال تاريخهم المديد... ومعنى العلمانية: فصل الدين عن المجتمع والدولة. فهي فكرة غريبة لحما ودما.
وقد تحدثنا عن العلمانية في عدد من كتبنا، منها ما سجلته في سلسلةحتمية الحل الإسلامي) ولا سيما في الجزء الأول منها الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا)، ومنها الجزء الثالث بيّنات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين)، ومنها الجزء الرابعأعداء الحل الإسلامي) ومنهم: عبيد الفكر الغربي، والعلمانيون في طليعتهم.
كما ألفت في مناظرة العلمانيين كتابيالإسلام والعلمانية وجها لوجه)، وكتابي الآخرالتطرف العلماني ومواجهة الإسلام: نموذج تركيا وتونس).
وفي هذه الكتب كلها؛ بينت نشأة هذه العلمانية في أوربا، وأنها كانت ضرورة لا بد منها لإنجاح مسيرة التحرر والتقدم للنهضة الأوربية.
دعوى بعض الحداثيين والليبراليين الجدد: أن العلمانية هي الحل أو هي العلاج الكافي، والدواء الشافي، لمعضلات مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وليس (الإسلام هو الحل) كما تنادي بذلك تيارات ضخمة في أوطاننا، فهذه دعوى متهافتة، ويكفي أنها مرفوضة من أغلبية الأمة، التي ترى فيها عدوانا على شريعتها، ومناقضة لمسلماتها.
كما ترى أنها دعوى دخيلة عليها، ليس بها حاجة إليها، إنما قامت العلمانية في الغرب لأسباب تاريخية معروفة، تتمثل في تحكُّم الكنيسة الغربية ورجالها في الدولة، وفي حياة الناس، وتسلطها عليهم في الأرض باسم السماء، وليس من حق أحد أن يحاسبهم أو ينتقدهم، فلهم من (القداسة) ما يحول دون ذلك.
وعندما ضاق الناس ذرعًا بذلك، وبدأ عصر التنوير، ثار الناس على جمود الكنيسة وطغيانها، ومحاكم تفتيشها وما اقترفت من مظالم وجرائم في حق العلم والعلماء. ووقوفها مع الملوك ضد الشعوب، ومع الإقطاعيين ضد الفلاحين، ومع الخرافات ضد العلم، ومع الظلام ضد النور، وأسقطوا حكم الكنيسة الذي كان يحكم تحت غطاء الدِّين، وكان هذا أمرا لا بد أن يحدث، لأنه يتماشى مع سنن الله في الكون والمجتمع.
نحن في الإسلام ليس لدينا كنيسة، ولا سلطة دينية كهنوتية، ولا كاهن يتحكم في ضمائر الناس، ويحتكر الوساطة بيننا وبين ربنا، بل ليس عندنا طبقة كهنوتية تسمى (رجال الدِّين) يجب أن نذهب إليهم إذا أذنبنا، ونعترف لهم بما اقترفنا، ونلتمس منهم الغفران لخطايانا، وإلا هلكنا! بل المقرَّر عندنا أن كل الناس رجال لدينهم. عندنا فقط علماء يخدمون الدِّين بما تعلموه وفقهوه. كما قال الله تعالى: ((فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) [التوبة:122].
لا حاجة لنا إذن إلى العلمانية التي تعني تاريخيا: التحرُّر من سلطان الكنيسة، التي لا وجود لها عندنا.
العلمانية كانت (حلاًّ) لمشكلة المجتمع الأوربي، وكانت ضرورة ليصل إلى التحرُّر المنشود. ولكنها عندنا ليست ضرورة، بل ضررا، وليست حلا بل مشكلة.
وقد ناقشت قضية (العلمانية) وصلتها بالإسلام في أكثر من كتاب لي، منها: (الإسلام والعلمانية وجها لوجه) و(التطرف العلماني في مواجهة الإسلام) و(بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين). ولا أريد أن أعيد بحثها هنا اليوم. فمن أراد فليرجع إلى هذه الكتب.
ولكنى أكتفي هنا ببعض النقول من مفكرَين مدنيَّين ليسا محسوبين على علماء الدِّين، حتى يتهموا بالتعصب والانغلاق، ومعاداة الغرب ... إلخ.
الجابري يقول: العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة:
يسرني أولا أن أنقل هنا: ما كتبه المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري عن (العلمانية) أو (اللائكية) التي يطرحها بعضهم كمرتكز للتغيير والإصلاح في وطننا العربي، ويرى الجابري: أن العلمانية طرحت في بعض المراحل لأسباب لم تعد قائمة اليوم. فقد طالب بها نصارى الشام حين أرادوا الاستقلال عن الدولة العثمانية. فعبروا بذلك عن إرادتهم الاستقلال عن الترك.
وحين تبنى الفكر القومي العربي شعار العلمانية: كانت دلالته ملتبسة بمضمون شعار الاستقلال والوحدة. ذلك باختصار هو الإطار الأصلي الذي طرح فيه شعار العلمانية في بلاد الشام (سورية الكبرى).
ولا بد من ملاحظة أن هذا الشعار لم يرفع قط في بلدان المغرب العربي، ولا في بلدان الجزيرة، ولربما لم يرفع بمثل هذه الحدة في مصر نفسها حيث توجد أقلية قبطية مهمة ... وعندما استقلت الأقطار العربية، وبدأ التنظير لفكرة العروبة و(القومية العربية)، طرح شعار (العلمانية) من جديد، وخصوصًا في الأقطار العربية التي توجد فيها أقليات دينية (مسيحية بصفة خاصة).
وهذا الطرح كان يبرِّره شعور هذه الأقليات بأن الدولة العربية الواحدة التي تنادي بها القومية العربية ستكون الأغلبية الساحقة فيها من المسلمين، الشيء الذي قد يفرز من جديد وضعا شبيهًا بالوضع الذي كان قائما خلال الحكم العثماني. وإذن فالدلالة الحقيقية لشعار (العلمانية)، في هذا الإطار الجديد، إطار التنظير لدولة الوحدة كانت مرتبطة ارتباطا عضويا بمشكلة حقوق الأقليات الدِّينية، وبكيفية خاصة حقها في أن لا تكون محكومة بدين الأغلبية، وبالتالي فـ(العلمانية) على هذا الاعتبار كانت تعني بناء الدولة على أساس ديمقراطي عقلاني وليس على أساس الهيمنة الدِّينية. وفي خضم الجدل السياسي الأيديولوجي بين الأحزاب والتيارات الفكرية، عبَّر بعضهم عن هذا المعنى بعبارة (فصل الدِّين عن الدولة)، وهي عبارة غير مستساغة إطلاقا في مجتمع إسلامي، لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدِّين والدولة. إن هذا التعارض لا يكون له معنى إلا حيث يتولى أمور الدِّين هيئة منظمة تدَّعي لنفسها الحق في ممارسة سلطة روحية على الناس، في مقابل سلطة زمنية تمارسها الهيئة السياسية: الدولة.
ثم يقول الجابري: مسألة (العلمانية) في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات: إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات، والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة، هي حاجات موضوعية فعلا، إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها، بل مشروعيتها عندما يعبَّر عنها بشعار ملتبس كشعار (العلمانية).
وما نريد أن نخلص إليه هو: أن الفكر العربي مطالب بمراجعة مفاهيمه، بتدقيقها وجعل مضامينها مطابقة للحاجات الموضوعية المطروحة. وفي رأيي: أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري (الديمقراطية) و(العقلانية)، فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي: الديمقراطية تعني حفظ الحقوق: حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني: الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه لا الديمقراطية، ولا العقلانية، تعنيان بصورة من الصور: استبعاد الإسلام، كلا. إن الأخذ بالمعطيات الموضوعية وحدها يقتضي منا القول: إنه إذا كان العرب هم (مادة الإسلام) حقًا، فإن الإسلام هو روح العرب. ومن هنا ضرورة اعتبار الإسلام مقوِّمًا أساسيًّا للوجود العربي: الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين، والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعًا مسلمين وغير مسلمين.
إعادة تأسيس الفكر القومي على مبدأي الديمقراطية والعقلانية، بدل مبدأ العلمانية، وإحلال الإسلام المكانة التي يجب أن يحتلها في النظرية والممارسة، تلك من جملة الأسس التي يجب أن تنطلق منها عملية إعادة بناء الفكر القومي العربي، الفكر الذي يرفع شعار الوحدة العربية والوطن العربي الواحد من المحيط إلى الخليج[1] اهـ.
أبو المجد ينادي بإسقاط الدعوة إلى (العلمانية):
وما نادي به المفكر المغربي الدكتور الجابري من وجوب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي المعاصر، نادى به كذلك من قِبَل مفكر مصري، هو الدكتور أحمد كمال أبو المجد، وذلك في ورقته التي قدمها في ندوة (الإسلام والقومية العربية)، التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالقاهرة، والتي شارك فيها عدد لا بأس به من الباحثين والمفكرين العرب من القوميين والإسلاميين.
قال أبو المجد: (والقوميون العرب مطالبون فوق ذلك بإسقاط الدعوة إلى (علمنة القومية) وموضوع (العلمانية) موضوع دقيق ويحتاج إلى دراسة مستقلة. والعلمانية مصطلح نلح بشدة على تغييره والعدول عنه، لشدة غموضه أولًا، ولاشتماله على إيحاءات غير صحيحة تتعلَّق بالتقابل والتناقض بين الدِّين والعلم.
إن (العلمانية) تحمل في الواقع سلسلة من المعاني والمبادئ لعل من أهمها:
1. نفي الصفة الدِّينية عن السلطة السياسية في الدولة.
2. الفصل بين الدِّين والدولة.
ويجمع البعض هذين العنصرين في عبارة واحدة هي: (حياد الدولة تجاه الدِّين، كل دين، بحيث لا تلزم الدولة نفسها بأي معتقد ديني أو دين، ولا تخص أي دين باعتراف خاص به أو بعطف خاص به)[2].
3. المساواة بين أتباع الأديان في المعاملة السياسية والإدارية والاجتماعية.
4. تطوير الأوضاع والأنظمة الاجتماعية على أساس عقلاني مستمد من التجربة والنظر العقلي، بعيدا عن النصوص والمبادئ الدِّينية.
إن فيما يسمى العلمانية عناصر لا نعتقد أنها تتعارض بالضرورة مع الإسلام، كاعتبار السلطة السياسية ذات أساس مدني مستمد من رضا المحكومين، ونفي الصفة الثيوقراطية عنها. وكالتسليم بحق أتباع الديانات المختلفة في ممارسة شعائرهم الدِّينية بحرية، إلا إذا صادمت ما يعرف بالنظام العام والآداب العامة. وهي فكرة ترتبط (بالدولة) ولا ترتبط (بالإسلام) ...
أما قضية فصل الدِّين عن الدولة، بمعنى إقصاء الدِّين عن أن يكون له دور في تنظيم أمور المجتمع، فإنها المكوِّن الرئيسي من مكونات (العلمانية) الذي لا يسع مسلما قبوله.
ودون توسع في عرض هذه المشكلة: نلاحظ مع كثير من الباحثين: أن الدعوة إلى (العلمانية) في إطار التوجه القومي، تخلق من المشاكل والصعاب أكثر كثيرا مما تحل وتحسم. إنها في الحقيقة تلبي حاجة واحدة، هي حاجة الأقليات المسيحية في الوطن العربي للشعور بالاطمئنان، وبالمساواة داخل المجتمع العربي المسلم، ولكنها:
أولاً: لا تنشئ موقفا حياديًا بين الأديان. إذ هي من وجهة نظر المسيحية تتفق تماما مع قاعدة (أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر) ... ولكنها تضع العربي المسلم في تناقض مع شمول الإسلام وتنظيمه الواضح -إجمالاً وتفصيلا- لأمور المجتمع. وبذلك تكون الدعوة إلى العلمانية -في الواقع- منحازة لرؤية الأقلية الدِّينية على حساب رؤية الأغلبية.
ثانيًا: إنها تستعير صيغة مستمدة من تاريخ الصراع بين الكنيسة والدولة في أوربا وتحاول فرضها على مجتمع لا يعرف تاريخه صراعا مشابها.
إن الدعوة إلى (علمنة) القومية ... وعلمنة (الدولة) في هذا الوقت بالذات، مسلك بعيد تمامًا عن الحكمة، ما دام مصطلح (العلمنة، والعلمانية) يحمل في ثناياه هذه المكونات التي يتعارض بعضها مع أساسيات التصور الإسلامي العام.
إن إيجاد المخرج النفسي والاجتماعي للأقليات المسيحية في المجتمعات العربية لا يجوز أبدًا أن يتم من خلال صيغة تحمل كل هذه المحاذير، وتهدد بوضع التوجه القومي كله في صراع مع التوجه الإسلامي، الذي تتعاظم موجته، ويزداد أنصاره عددًا وقوة.
إن ملف (العلمانية) ينبغي أن يفتح، ومكوناتها تحتاج إلى تحديد وإعادة نظر، واستعمالها كمصطلح، والدعوة إليها: يحسن -فيما نرى- أن تتوقف)[3].
وبهذا اتفقت دعوة أبو المجد في المشرق، ودعوة الجابري في المغرب، على استبعاد شعار العلمانية من قاموس دعاة العروبة، لأنه يهدم أكثر مما يبني، ويثير من الإشكالات أكثر مما يقدم من حلول. ثم هو مرفوض أصلا من أغلبية الأمة، التي تراه متعارضا مع دينها وتراثها.
العقلانية والديمقراطية تتفقان مع جوهر الإسلام
رأينا اتفاق الدكتور أحمد كمال أبو المجد من المشرق العربي، والدكتور محمد عابد الجابري من المغرب العربي، على ضرورة تخلي دعاة القومية عن شعار العلمانية، الذي لم يعد له مبرِّر في حياتنا الحاضرة، ودعا كل منهما إلى ضرورة التنادي بأمرين أساسيين، لا تستطيع الأمة أن تنهض وتتقدم بغيرهما، وهما: العقلانية والديمقراطية.
وأنا أؤيدهما في هذه الدعوة المخلصة، بشرط أن نفسر بجلاء المقصود من كل منهما.
فما المراد بـ(العقلانية)؟ وما المراد بـ(الديمقراطية)؟
العقلانية المنشودة:
أما (العقلانية) فنحن نرحب بها، لكن هذه المصطلحات باتت لها (مفهومات) عند الغربيين، تختلف كثيرًا أو قليلاً عما ندركه نحن منها.
فالعقلانية عند الغربيين: اتجاه أو مذهب يعتمد على العقل وحده في فَهم الكون والإنسان والحياة في مقابل (الحسِّ) أو (التَّجرِبة)، فالعقليون لهم وجهتهم وطريقهم، والتجريبيون لهم وجهتهم وطريقهم.
وقد يكون هذا الاتجاه أو هذا المذهب في مقابلة الذين يعتمدون على مصادر أخرى، مثل الوحي عند الكتابيين (اليهود والنصارى والمسلمين)، ومثل الذين يعتمدون على الإلهام والذوق من الصوفية، والباطنية وغيرهم. فالعقلانية هنا تعني: المادية والحسية.
وقد تستعمل العقلانية في المذهب الذي يرى أنه لا يجوز الوثوق إلا بالعقل، ولا يجوز التسليم إلا بما يعترف به العقل بأنه منطقي وكاف وفقا للنور الطبيعي (الفطري). وهذا ما يقول به الدِّينيون، فلا يرون تعارضا بين العقل والوحي إذا ثبت الوحي بطريق النقل بصفة قطعية. وهنا يعطي فسحة للروح والحدس والشعور، أي للصوفية[4].
وقد تستخدم (العقلانية) في مقابلة الاتجاه إلى تصديق الخرافات والأوهام والشعوذة، وهذا ما يرحب به كل مؤمن وكل عاقل.
وإذا نظرنا إلى العقلانية عندنا -نحن العرب والمسلمين- نجد أن هذا اللفظ من الناحية اللغوية يسمى (مصدرًا صناعيًا) منسوبا إلى العقل، زيدت فيه الألف والنون، كما زيدت في نحو الربانية، نسبة إلى الرب، والروحانية نسبة إلى الروح.
ولم يستخدم هذا التعبير ( العقلانية) - فيما أعلم- في تراثنا، ولكن الاتجاه العقلي -بصفة عامة- معروف في تراث الأمة، عُرف به الفلاسفة، وعُرف به علماء الكلام عامة، والمعتزلة منهم خاصة.
وهناك فرق كبير بين الفلاسفة والمتكلمين -ومنهم المعتزلة- فالفلاسفة ينطلقون من مجرد العقل، والمتكلمون ينطلقون من العقل المؤمن بالدِّين.
على أن قولنا: أن الفلاسفة ينطلقون من مجرد العقل، قد يُعترض عليه معترضون كثيرون، فإنهم ينطلقون من العقل المؤمن بالفلسفة اليونانية، ولا سيما فلسفة أرسطو طاليس، الذي سمَّوه المعلم الأول، وأضفوا على مقولاته هالة من التقديس، حتى إذا تعارض مع قواطع القرآن؛ أولوا القرآن ليتفق مع ما قرره أرسطو، فكان أرسطو هو الأصل، والقرآن تابع!!
على أن مجال العقل في تراثنا مجال واسع، فالمتكلمون -حتى الأشاعرة والماتريدية منهم- يعتبرون العقل أساس النقل، فلولا العقل ما قام النقل ولا ثبت الوحي، ولا تأسَّس الدين. فبالعقل ثبتت أعظم قضيتين في الدِّين: قضية وجود الله تعالى، وقضية إثبات النبوة، فإثبات النبوة لا يتمُّ إلا بالعقل عن طريق الآيات البينات، التي يؤيد الله بها رسله، ومنها: المعجزة. فالعقل هو الأداة الوحيدة لإثبات الوحي، أو نبوة النبي، فإذا أثبت العقل النبوة بطريق قطعي: عزل العقل نفسه – كما يقول الإمام الغزالي – ليتلقى بعد ذلك عن الوحي، ويقول: سمعنا وأطعنا.
والله سبحانه قد دلَّنا على نفسه بما بثَّ من آيات دالة في الأنفس والآفاق، ولا زال يُري خلقه من هذه الآيات ما يبهر العقول، ويبيِّن الحق: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ))[فصلت:53].
ولا تجد كتابا دينيا -غير القرآن- كرَّم العقل، وأشاد به، وحضَّ على الرجوع إليه، وذمَّ الذين يعطلونه بالجمود أو التقليد، أو اتباع الظنون والأهواء. كما حفل بكل المفردات من (عائلة العقل) مثل: التفكُّر والنظر والتدبُّر والاعتبار، والبرهان والحجَّة والحكمة والتعلُّم والتفقُّه والتذكُّر.
وإن كان مما يؤسف له: أن كثيرا من المسلمين في عالم اليوم غيَّبوا عقولهم، واستسلموا للأوهام أو الجهالات، أو ألقَوا عقولهم وغدَوا يفكرون بعقول الموتى.
والعقلانية التي ننشدها لا تحتاج إلى تفلسف ولا معاناة في تعريفها. إنها ببساطة تعني: أن نعتمد على عقولنا في تسخير قوى الكون لصالحنا، والانتفاع بخيراته للنهوض بأمتنا، والخروج بها من سجن التخلف إلى باحة التقدم، واستخدام طاقات العلم ووثباته الهائلة، وثوراته الكبرى في خدمة أمتنا خاصة، والإنسانية عامة. وأن تكون هذه منهجية الأمة في تعليمها وثقافتها وإعلامها.
وليس هذا جديدا على أمتنا، فقد شادت حضارة شامخة جمعت بين العلم والإيمان، وبين الإبداع المادي والسمو الروحي والأخلاقي، ولم يعرف في تاريخها صراع بين الدِّين العلم، بل كان الدِّين عندها علما، والعلم عندها دينا.
وقد شارك رجال كبار من علماء الدِّين في علوم الكون والطبيعة مثل: ابن رشد الحفيد، والفخر الرازي، وابن النفيس، وغيرهم.
وليس هذا بغريب على أمة يجعل دينها التفكير فريضة، والنظر في آيات الله في الآفاق والأنفس عبادة، ويعمل قرآنه على إنشاء العقلية العلمية، ويرفض الظن والهوى والتقليد في تأسيس الحقائق، وينادي بإقامة البرهان في كل دعوى[5]. ويرى علماء الشريعة فيه: أن إتقان علوم الدنيا فرض كفاية على الأمة في مجموعها، مثل علوم الدِّين. فإن وجد بها عدد كاف في كل علم ديني أو دنيوي، يلبي الحاجة، ويغطي مطالب الخَلق، فقد رفع عنها الإثم والحرج، وإلا باءت الأمة كلها بالإثم.
سيادة الروح العلمية:
لقد كان مما عبته على الصحوة الإسلامية المعاصرة: غلبة العاطفة والغوغائية على كثير من فصائلها، وتغييب العقلانية والعلمية عنها. وقد كان من أبرز ما ناديت به لكي تنتقل الصحوة من المراهقة إلى الرشد: أن تنتقل من العاطفية والارتجالية إلى العقلانية والعلمية. ومما ركَّزت عليه في هذا المقام:
تأكيد ما ذكرته من قديم في كتابي: (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) وبعد ذلك في كتابي: (أولويات الحركة الإسلامية) في فصل (فكر علمي) وهو: أن يسود (التفكير العلمي) و(الروح العلمية) مسيرتنا كلها.
نريد أن يسود: (التفكير العلمي)، وتسود (الروح العلمية): كل علاقاتنا ومواقفنا وشؤون حياتنا، بحيث ننظر إلى الأشياء والأشخاص والأعمال، والقضايا والمواقف: (نظرة علمية)، ونصدر قراراتنا الاستراتيجية والتكتكية، في الاقتصاد والسياسة والتعليم وغيرها: بعقلية علمية، وبروح علمية، بعيدًا عن الارتجالية، والذاتية، والانفعالية، والعاطفية، والغوغائية، والتحكمية، والتبريرية: التي تسود مناخنا اليوم، وتصبغ تصرفاتنا إلى حد بعيد. فمن سلم من أصحاب القرار من اتِّباع هواه الشخصي، أو هوى فئته وحزبه: كان أكبر همه اتِّباع ما يرضي أهواء الجماهير، لا ما يحقِّق مصالحها، ويؤمِّن مستقبلها، في وطنها الصغير، ووطنها الكبير، والأكبر.
و(للروح العلمية) دلائل ومظاهر أو سمات، كنت أشرت إليها، أو إلى أهمها في كتابي: (الحل الإسلامي فريضة وضرورة)، في مجال (النقد الذاتي) للحركة الإسلامية، يحسن بي أن أُذكِّر بها هنا، في مجال تأكيد حاجة الأمة إليها، وفي بعض الإعادة إفادة.
سمات الروح العلمية المطلوبة:
أبرز هذه السمات:
1. النظرة الموضوعية: إلى المواقف والأشياء، والأقوال، بغضِّ النظر عن الأشخاص، كما قال علي بن أبي طالب: "لا تعرف الحق بالرجال، أعرف الحق تعرف أهله"[6].
2. احترام الاختصاصات، كما قال القرآن: ((فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [النحل:43، الأنبياء:7]، فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان:59]، ((وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)) [فاطر:14]. فللدِّين أهله، وللاقتصاد أهله، وللعسكرية أهلها، ولكل فن رجاله، وخاصة في عصرنا، عصر التخصص الدقيق، أما الذي يعرف في الدِّين، والسياسة، والفنون، والشؤون الاقتصادية والعسكرية، ويفتي في كل شيء: فهو في حقيقته لا يعرف شيئا.
3. القدرة على نقد الذات، والاعتراف بالخطأ، والاستفادة منه، وتقويم تجارب الماضي تقويما عادلاً، بعيدًا عن النظرة (المَنْقَبِيَّة): التي تنظر إلى الماضي عبى أنه كله مناقب وأمجاد! أو النظرة (التبريرية): التي تحاول أن تبرر كل خطأ أو انحراف، ولو بطريقة غير مقبولة، لا شرعا ولا وضعا.
4. استخدام أحدث الأساليب وأقدرها على تحقيق الغاية، والاستفادة من تجارب الغير حتى الخصوم، فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها: فهو أحق الناس بها[7]. وبخاصة ما يتعلق بالوسائل والآليات، كالتقنيات ونحوها، فنحن في سَعَة من استخدامها: ما دامت تخدم مقاصدنا وغايتنا الشرعية.
5. إخضاع كل شيء -فيما عدا المُسلَّمات الدِّينية والعقلية: للفحص والاختبار، والرضا بالنتائج: كانت للإنسان أو عليه.
6. عدم التعجل في إصدار الأحكام والقرارات، وتبنِّي المواقف: إلا بعد دراسة متأنِّية مبنية على الاستقراء والإحصاء، وبعد حوار بنَّاء، تظهر معه المزايا، وتنكشف المآخذ والعيوب.
7. تقدير وجهات النظر الأخرى، واحترام آراء المخالفين في القضايا ذات الوجوه المتعددة، في الفقه وغيره، ما دام لكل دليله ووجهته، وما دامت المسألة لم يثبت فيها نص حاسم يقطع النزاع، ومن المقرَّر عند علمائنا: أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية، إذ لا فضل لمجتهد على آخر، ولا يمنع هذا من الحوار البنَّاء، والتحقيق العلمي النزيه: في ظل التسامح والحب.
8. أن تتكون لدى أجيالنا خاصة: (العقلية العلمية)، التي حرصت تعاليم القرآن على إنشائها وتكوينها لدى المسلم. لا (العقلية العامية) الخرافية، التي تقبل كل ما يُلقى إليها، ولو كان من الأباطيل والأوهام[8].
9. وإذا كانت العقلانية مطلوبة في فَهم الحياة وسننها، فهي مطلوبة كذلك في فَهم الدِّين وأحكامه، فليس هناك دين منطقي يقوم على مخاطبة العقل، ويعلل أحكامه وتشريعاته، وأوامره ونواهيه، كدين الإسلام. وهو لا يتعارض فيه نقل صحيح مع عقل صريح. وما ظنه بعض الناس كذلك فهو مرفوض، ولا بد أن يكون ما حسب من العقل ليس بعقل في الواقع، أو ما حسب من الدِّين ليس بدين في الحقيقة.
وطالما نادينا علماء الأمة أن يركنوا إلى (فقه جديد) حثَّ عليه القرآن من قديم حين قال( قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)) [الأنعام:98]، ((انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)) [الأنعام:65]، ووصف القرآن الذين كفروا بأنهم: لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65]، كما وصف المنافقين بقوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ))[الحشر:13]. والمراد بهذا الفقه: فقه سنن الله في الكون والمجتمع، وآياته في الأنفس والآفاق.
ونحن ندعو في فقه الدِّين فقها نيّرا صحيحا، إلى أنواع من الفقه لا بد منها، لتهتدي الأمة صراطا مستقيما.
منها: فقه مقاصد الشريعة، وعدم الوقوف عند ظاهر النص وحرفيته، ووجوب الغوص على الحكم والأسرار التي هدف النص إلى تحقيقها بما فيها مصالح العباد في الدنيا والآخرة[9].
ومنها: فقه المآلات، أي النتائج والآثار التي تترتب على الحكم أو التكليف، فقد ينتهي ذلك إلى المنع من أمر مباح، لما قد يؤدي إليه من مفسدة، كما يشير إليه قوله: ((وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ))[الأنعام:108].
ومما نأسف له: أن هذا الفقه غاب عن بعض إخواننا من أهل العلم الشرعي، الذين شنوا عليَّ الغارة، حينما ذهبت مع وفد من العلماء والدعاة إلى دولة أفغانستان لمقابلة علماء (طالبان) لنقنعهم بترك تماثيل بوذا، التي صمموا على هدمها وإزالتها. وكان هدفنا: الدفاع عنهم قبل كل شيء، لا الدفاع عن التماثيل والأصنام، كما اتهمنا من اتهمنا بأننا جئنا لنحمي الأصنام، ولندافع عنها.
ونحن لم يكن همنا إلا الدفاع عن إخواننا، الذين عاداهم أهل الغرب، فأردنا إلا يستعدوا عليهم أهل الشرق، من أتباع بوذا، وهم بمئات الملايين. ولا سيما أن هذه الأصنام كانت موجودة عند الفتح الإسلامي وبعده بقرون، فلم يفكر أحد في إزالتها، أو تشويهها، ويسعنا ما وسعهم.
وقد اقترح بعض الصحابة على النبي : أن يقتل رأس النفاق في المدينة: عبد الله بن أُبَي ومن معه، ويستريح من شرهم وكيدهم، فكان جوابه: أخشى أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه!!
أي أنه خشي من حملة إعلامية يقودها خصومه، تشوه ما فعله الرسول، وتصوره بصورة سيئة تخوِّف الناس من محمد الذي لا يأمن أحد على نفسه عنده حتى أصحابه.
وهناك: فقه الموازانات، وفقه الأولويات، وفقه الاختلاف. وكلها ألوان ضرورية من الفقه المطلوب. وكلها توحي بتحرُّر الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي من الجمود والتقليد، والتمسك بفتاوى وأحكام صنعها (العقل المسلم) لزمنه وبيئته وحل مشكلاته، فلم تعد تلزمنا اليوم، لتغير الزمان والمكان والإنسان.
إن على الفقيه المسلم اليوم: أن ينظرفي الفقه الموروث[10] نظرة عميقة جديدة، ليتخير منه ما يلائم عصرنا ومحيطنا، ويعزل ما كان ابن مكانه وزمانه، وأن يقف مع الآراء المختلفة والمذاهب المتنوعة: وقفة الموازنة والمقارنة بين الأدلة: ليختار منها ما كان أقوم قيلا، وأهدى سبيلا، وأرجح دليلا، مراعيا مقاصد الشرع، ومصالح الخَلق، ولا يتعبد ببعض الأسماء والمصطلحات التي لم يعد لها قبول في عصرنا، مثل مصطلح (أهل الذمة) أو (الجزية) فالمدار على المسميات لا على الأسماء. وقد قال علماؤنا: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولننظر فيما سماه الأقدمون (جهاد الطلب) وهو يقوم على التوسع والتوغل في أرض الأعداء، من باب ما يسمونه الآن: حرب الوقاية، فلم نعد في حاجة إليه اليوم، بعد ميثاق الأمم المتحدة، واتفاق العالم على احترام حدود الدول الإقليمية، والعمل على حلِّ مشاكل النزاع فيما بينها بالوسائل السلمية.
وإن قال بعضهم: إن المقصود بهذا الجهاد نشر الإسلام، فإنا نستطيع نشر الإسلام بوسائل غير عسكرية، مثل الإذاعات الموجهة، والقنوات الفضائية، والإنترنت وغيرها. فنحن في حاجة إلى جيوش جرارة من المعلمين والدعاة والإعلاميين المدربين على مخاطبة الأمم بألسنتها المختلفة ليبينوا لهم، وليس عندنا واحد من الألف من المطلوب منا!!
وعليه أن ينظر في الأمور المستجدة - وما أكثرها- في ضوء فقه الواقع، موازنا بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية للشريعة، فلا يهمل النصوص الجزئية، كما يدعو إلى ذلك العلمانيون والحداثيون، ولا يغفل المقاصد الكلية، كما يدعو إلى ذلك الحرفيون والجامدون. وليستنَّ بفقه الصحابة رضي الله عنهم، الذين كانوا أفقه الناس للإسلام، وأفهمهم لروحه، وأعرفهم بمقاصده، وأبصرهم بحاجات الناس، ومصالح العباد، وأكثرهم تيسيرا على الخَلق، مهتدين بالمنهج القرآني: ((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ))[الحج:78]، ((ويُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ))[البقرة:185]، وبالمنهج النبوي: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"[11].
ابن رشد والعلمانية:
ومن أغرب ما قرأت من دعاوي العلمانيين والحداثيين: ادعاؤهم أن العلامة الكبير أبا الوليد بن رشد الحفيد (ت595هـ) كان علمانيا!! لأنه كان يؤمن بأن هناك حقيقتين في الوجود: حقيقة عقلية تتضمنها الفلسفة، وحقيقة دينية جاء بها الوحي، وأن لكل منهما مجاله وأهله. ولهذا حاربه الفقهاء، ووجد من السلاطين ورجال المُلك من أمر بإحراق كتبه.
وهذه إحدى دعاوى القوم الذين لم يحسنوا قراءة ابن رشد، ولم يستوعبوا تراثه، ولم يعرفوا ماذا كان عمله في المجتمع.
لقد جهل هؤلاء أن ابن رشد يعرف بـ(القاضي ابن رشد)، أي أن الدولة وظفته قاضيا يحتكم إليه الناس، فيحكم بينهم بأحكام الشريعة. وأن هذا الرجل كان من الموسوعيين القلائل الذين عرفهم تاريخنا، فقد اجتمعت له:
1- (الثقافة الشرعية) التي مثلها كتابه الفريد (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) وهو يعد من أعظم ما كتب في الفقه المقارن بين المذاهب المتبوعة. وقد درس الفقه عن أبيه وجده سميه (ابن رشد الجد) صاحب المقدمات والبيان والتحصيل، وأحد العقول الكبيرة في الفقه المالكي.
2- (الثقافة الفلسفية)، فهو يعد أعظم شراح أرسطو، ومن خلال شروحه عرفت أوربا أرسطو، واستفادت بذلك في نهضتها. وله كتابان من أعظم ما كتب فيما يسمى (الفلسفة الإسلامية) وهما: فصل المقال، وكشف الأدلة عن مناهج أهل المِلَّة.
3- (الثقافة العلمية) الطبية، فقد كان الطب أحد شعب الفلسفة، وكان ابن رشد أبرز المشاركين فيه، إذ كان له كتاب (الكليات) في الطب، الذي ترجم إلى اللاتينية، وانتفعت به أوربا قرونا، وله رسائل أخرى في المجال العلمي[12].
ولم يكن يجد ابن رشد في هذه الثقافات تعارضا ولا تناقضا، بل رآها يغذي بعضها بعضا، ويكمل بعضها بعضا، ولم يثر ابن رشد الفيلسوف على ابن رشد الفقيه، ولا العكس. ولم يقل يوما: إن هناك حقيقتين مختلفتين أو متعارضتين: إحداهما فلسفية، والأخرى شرعية، بل كان يراهما حقيقة واحدة، لأن الحق لا يعارض الحق، والحقائق القطعية لا تتناقض، ولذا عني أن يدلل على ذلك، بكتابه (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال).
فهناك اتصال – لا تعارض ولا تناقض – بين الشريعة والحكمة، أو بين العقيدة والفكر، أو بين الدين والفلسفة، وله كلمات نيّرة في هذا الكتاب الموجز.
وحينما كفر الإمام أبو حامد الغزالي الفلاسفة في ثلاث قضايا، وخطأهم في سبع عشرة: في كتاب (تهافت الفلاسفة) حاول ابن رشد أن يدافع عن الفلاسفة، ويرد على الغزالي في كتابه (تهافت التهافت)، الذي يثبت فيه أن الفلاسفة المسلمين، ولا سيما (المشَّائين) منهم، مثل الكندي والفارابي وابن سينا، ليسوا كفارا، وإنما هم مسلمون. واجتهد أن يتأول مقولاتهم على وجه لا يخرجهم من الإسلام.
إن اتهام القاضي الفقيه ابن رشد بأنه (علماني) غلط واضح، وجهل فاضح، وجهالة فجَّة من جهالات الذين يقحمون أنفسهم على التراث، ولم يبذلوا يوما جهدا في هضمه وحسن فَهمه، ورد بعضه إلى بعض، وبخاصة تراث العباقرة والأفذاذ من أمثال الغزالي وابن رشد وابن تيمية وابن الوزير والشاطبي وابن خلدون وغيرهم.
كل ما في الأمر: أن جماعة من حُسّاد ابن رشد كادوا له عند الأمير الذي كان يجله ويقدمه، وزوّروا عليه أشياء لم يقلها، فصدّقهم الأمير، وغضب على ابن رشد، وأمر بإحراق كتبه، كما أحرقت كتب الغزالي في وقت من الأوقات.
وقد قيل: إن الأمير في الأخير عرف منزلة ابن رشد.
ولكن الرجل مشهود له من أهل عصره وأهل بلده، بالعلم والفضل وحسن السيرة والأمانة والنبوغ في العقليات والشرعيات. ونقل الذهبي عن ابن الأبَّار في (تكملته) أنه قال: لم ينشأ في الأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وكان متواضعا منخفض الجناح.
وقالوا:كان يفزع إلى فتواه في الطب، كما يفزع إلى فتواه في الفقه. ولي قضاء قرطبة فحمدت سيرته[/13].
[1]- الدين والدولة للجابري فصل (بدلا من العلمانية: الديمقراطية والعقلانية) صـ108 - 114. طبعة مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. لبنان.
[2]- العروبة والعلمانية لجوزيف مغيزل. دار النهار للنشر. بيروت. 1980م.
[3]- انظر: القومية العربية والإسلام: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية. بحث د. كمال أبو المجد (نحو صيغة جديدة للعلاقة بين العروبة والإسلام) صـ529 – 531.
[4]- انظر: موسوعة لالاند: المجلد الثالث صـ1172، 1173 منشورات عويدات للطباعة والنشر. بيروت – باريس.
[5]- انظر: كتابنا (العقل والعلم في القرآن الكريم) فصل (تكوين العقلية العلمية في القرآن) صـ249- 282.
[6]- فيض القدير للمناوي : 1/17.
[7]- إشارة إلى حديث: "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها"، وقد رواه الترمذي في العلم (2687) عن أبي هريرة، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وابن ماجه في الزهد (4169)، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (506).
[8]- انظر: كتابنا (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) فصل (من العاطفية والغوغائية إلى العقلانية والعلمية) صـ84 – 115 طبعة دار الشروق بالقاهرة.
[9]- راجع ما كتبناه في فصل (السياسة بين النص والمصلحة) صـ64 وما بعدها.
[10]- انظر: كتابنا (شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان) فصل: (كيف نختار من تراثنا الفقهي؟) صـ79- 104. طبعة وهبة الخامسة 1997م.
[11]- رواه البخاري في العلم (69) عن أنس، ومسلم في الجهاد والسير (1734)، وأحمد في المسند (13175)، وأبو داود في الأدب (4794).
[12]- منها: شرح الأرجوزة لابن سينا في الطب، وشرح كتاب السماء والعالم لأرسطو، وشرح كتاب النفس، والحيوان، والكليات في الطب، وغيرها.